المحامي عمر العطعوط
منذ أن عبّرت عن نيتي بالترشح في الانتخابات البرلمانية القادمة، خضت حوارات عديدة مع أصدقاء حول أسباب تغيير موقفي من المقاطعة (التي التزمت بها من انتخابات ١٩٩٧ وحتى ٢٠١٣)، إلى المشاركة والترشح. استوقفتني كثيرًا تعليقات من نوع «لا تلوّث نفسك بدخول البرلمان»، و«ستفقد مصداقيتك عندما تصبح جزءًا من هذه المؤسسة»، و«نحن أفضل حالًا بدون وجود برلمان من أساسه».
هذه المواقف ليست جديدة، لكننا بتنا نسمعها أكثر فأكثر من أشخاص مثقفين ومتعلمين يؤمنون نظريًا بالدولة المدنية وسيادة القانون والمواطنة وتلازم السلطة والمسؤولية. إن هذا تحول خطير جدًا في بلد مثل الأردن عرف الحكومة البرلمانية منذ خمسينيات القرن الماضي ولديه دستور (قبل التعديلين الأخيرين) مستلهم من أعرق الديمقراطيات في العالم، يمكن لو تم تطبيقه أن يكون الأردن نقطة مضيئة كدولة مدنية ديمقراطية في هذه المنطقة المأزومة.
هذا التحول جاء نتيجة لعبث ممنهج بالركن النيابي من نظام الحكم عبر أكثر من عقدين من خلال قانون الصوت المجزوء إلى الدوائر الوهمية وتزوير الانتخابات والتدخل في عمل البرلمان، حتى بات مجلس النواب محل تندّر وسخرية لدى الكثير من المواطنين الذين فقدوا الثقة تمامًا في المؤسسة البرلمانية وباتوا يطالبون بحكم «الدكتاتور الصالح» أو بالتحول إلى الملكية المطلقة بدلًا من تفعيل دستور 1952 القائم على أساس الملكية الدستورية.
اليوم، وبعد خمس سنوات مما أسميناه «الربيع العربي»، بات واضحًا أنه لا يمكن التعويل على ضغط الشارع من أجل تحقيق إصلاح ديمقراطي حقيقي، إذ أصبح هنالك شريحة واسعة من المجتمع مقتنعة بأن الخيارات في منطقتنا تنحصر في الدكتاتورية أو الفوضى والإرهاب. وهنا في الأردن، تعتقد هذه الشريحة أن هنالك خيارين لا ثالث لهما: الإسلام السياسي أو حزب السلطة الذي يتكون من مجموعات من المنتفعين من الوضع القائم. فتختار أن تنأى بنفسها عن أي نوع من العمل العام وتحافظ قدر الإمكان على مصالحها، معتقدة أن الديمقراطية والإصلاح السياسي نقيضان للأمن والاستقرار، أو أننا «شعب ما بنفع معنا ديمقراطية».
ما نحتاجه اليوم هو تجميع أصوات الأردنيات والأردنيين المؤمنين بالدولة المدنية الحقيقية وتلازم السلطة والمسؤولية والمواطنة الكاملة والمساواة وإعلاء حقوق الإنسان الفرد لا الحقوق الجمعية. أنا مقتنع أن هذه الشريحة كبيرة لكنها معتكفة وبحاجة لقنوات لتشكيل تحالفات والعمل نحو أهداف مشتركة.
من هنا وجدت أن الانتخابات النيابية القادمة يمكن أن تكون فرصة لجمع أولئك الأردنيين والأردنيات على قواعد مشتركة، علّنا نخطو الخطوة الأولى نحو استعادة الركن الأول من أركان نظام الحكم في الأردن وهو مجلس النواب.
لست واهمًا، وأعلم أن قانون الانتخاب الجديد لا يختلف جوهريًا عن القوانين التي سبقته، كما أعلم أن فردًا أو مجموعة صغيرة من الأفراد لن يستطيعوا إحداث تغيير كبير في البرلمان في غياب إرادة حقيقية لإصلاح ديمقراطي.
مع هذا، أرى أن الانتخابات النيابية تشكل فرصة مهمة للاشتباك الإيجابي وتسمية الأمور بمسمياتها وبناء تحالفات جديدة تؤمن بالدولة المدنية.
ما هي الدولة المدنية التي ندعو إليها؟ هي الدولة التي يسودها القانون الذي يتفق عليه الأردنيون خارج أي سلطة كانت سواء السلطة الدينية أو الدكتاتورية، وهي بالتالي دولة المواطنة الكاملة التي تقوم على مبدأ التساوي المطلق بين المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الدين أو الجنس أو الأصل. وهذا يتطلب مراجعة شاملة للتشريعات التي تحتوي نصوصًا تخالف هذا المبدأ مثل قوانين الأحوال المدنية والأحوال الشخصية وقانون الجنسية وغيرها.
ولأن الدولة المدنية هي دولة سيادة القانون الذي يتفق عليه الناس فهي بالضرورة ديمقراطية، وإلا فإننا نخرج من سلطة المؤسسة الدينية لنقع تحت سلطة المؤسسة القمعية الدكتاتورية.
المشكلة اليوم أن من يعتقدون بضرورة بناء دولة مدنية ديمقراطية عمادها المواطنة ويسودها القانون والعدالة والمساواة، يقفون ليس فقط في مواجهة أنصار الإسلام السياسي، بل أيضًا في مواجهة الدولة العميقة في الأردن. الدولة العميقة لدينا توظّف الدين لغايات سياسية ولفرض الوصاية، وتتنافس مع تيارات الإسلام السياسي على احتكاره.
الأمثلة على ذلك كثيرة، وأبرزها في مجالي التعليم والتشريع. فنجد هنالك منظومة تشريع متكاملة في الأردن ترتكز بشكل رئيسي على نصوص دينية مما يجعلنا في كثير من الأحيان نقنن ممارسات تخالف مبادئ المساواة بين مكونات المجتمع وترسخ الهويات الفرعية والطائفية بدلًا من سيادة القانون المدني بين وعلى جميع أفراد المجتمع.
نجد أيضًا أن المناهج الحديثة لا تزال تبتعد بنا عن العلم والابتكار، ويتم إدخال الدين في العلوم والرياضيات والثقافة العامة بشكل يؤدي بالضرورة إلى تعزيز مبدأ مرجعية الدين في كافة جوانب إدارة المجتمع. إن الدولة المدنية تتطلب إجراء مراجعة شاملة تقدّمية لمناهج التعليم في المدارس ترسّخ مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان والتعدّدية والهوية الوطنية الإنسانية الجامعة القائمة على التنوع في الخلفيات والمعتقدات، والتركيز على التفكير العلمي النقدي الحر.
مشكلة التعليم في الأردن بالتأكيد لا تكمن فقط بالمناهج، ومشكلة التهميش الاقتصادي والسياسي وغياب التنمية لن تحل فقط بإصلاح التعليم، لكنه الخطوة الأولى لتحقيق تكافؤ الفرص والتنمية العادلة، بدلًا من أن تستمر الدولة الريعية بخلق الاستثناءات في التعليم الجامعي والتعيينات لمعالجة أعراض مشكلة التنمية دون الوصول إلى أساسها. ينبغي وضع حد للتراجع الذي أصاب النظام التعليمي في الأردن في العقدين الأخيرين، وزيادة الاستثمار في التعليم بصفته أهم أولويات الدولة من أجل سد الفجوة بين التعليم الحكومي والخاص وبين محافظات المملكة المختلفة.
مطلوب من الدولة اليوم أن تستعيد مسؤوليتها عن مجالات أساسية لضمان العدالة الاجتماعية والرفاه الاجتماعي كالتعليم والصحة وشبكة الأمان الاجتماعي للفئات الأضعف، مع تطوير البنى التحتية والبيئة المحفزة للاستثمار المحلي والإبداع والتنافس والثقافة الإنتاجية.
إنه الوقت لاستعادة نظامنا الدستوري وإعادة الهيبة للركن الأول منه وهو البرلمان وذلك بتطوير قانون انتخاب يضمن تمثيلًا عادلًا للمواطنين ويشجّع على التكتلات والتحالفات السياسية ويمهّد لتطور أحزاب برامجية فاعلة يمكن أن تصل إلى السلطة من خلال الأغلبية النيابية. ولعل هذا هو التحدي الأكبر: تشكيل تكتلات وتحالفات جديدة ذات بوصلة واضحة ومبادئ متّسقة، تدرك أن المطالبة بالدولة المدنية تعني بالضرورة رفض كافة الاستقطابات والتحالفات الطائفية في المنطقة، والوقوف مع حق الإنسان في الحياة والحرية والكرامة، وتدرك أن المطالبة بالدولة بالمدنية لا يمكن أن تنفصل بأي حال من الأحوال عن مقاومة الاحتلال ورفض المشروع الصهيوني وكافة أشكال التطبيع معه، وأنها لا يمكن أن تتلاقى مع أي تبرير للقمع وتقييد الحريات.
لهذا يجب أن نتحرّك اليوم، ونتجمّع على مبادئ مشتركة، ونرفض الصمت والتقوقع في فقاعاتنا الصغيرة.
التغيير الذي نطمح إليه قد لا ينضج ويثمر في حياتنا، ولكن مسؤوليتنا تجاه الجيل القادم أن نسير بذلك الاتجاه. من غير المقبول أن نستمر بلعن العتمة دون تحريك ساكن. من هنا قررت أن أخوض تجربة الانتخابات النيابية وأن أكون جزءًا من تيار يعمل من أجل أردن مدني ديمقراطي لكل بناته وأبنائه.