نشر في صحيفتي العرب اليوم بتاريخ 28/:4/2010 والراي في 1/5/2010 وموقع عمون الاخباري
المحامي عمر العطعوط
في ظل ما يثار حول مصير القضايا التي بدأ مجلس النواب السابق التحقيق بها، والجهة التي تملك سلطة الاستمرار في إجراءات الملاحقة والاتهام للوزراء عن الجرائم المرتكبة اثناء الوظيفة في ضوء غياب المجلس، ومدى صلاحية النيابة العامة بالتحقيق في تلك الملفات باعتبار ما جاء فيها يشكل في حال ثبوته جرما يعاقب عليه القانون. نجد ان الدستور أناط بمجلس النواب سلطة الاتهام أمام المجلس العالي في القضايا التي يحاكم فيها الوزراء عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تأدية وظائفهم وذلك بموجب المادة (56) التي تنص: (لمجلس النواب حق اتهام الوزراء ولا يصدر قرار الاتهام إلا بأكثرية ثلثي أصوات الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب وعلى المجلس أن يعين من أعضائه من يتولى تقديم الاتهام وتأييده أمام المجلس العالي)، وأناط بالمجلس العالي سلطة الحكم على الوزراء سندا للمادة (55) التي تنص: (يحاكم الوزراء أمام مجلس عال على ما ينسب إليهم من جرائم ناتجة عن تأدية وظائفهم)، مع الإشارة إلى أن المجلس العالي بموجب المادة (57) من الدستور يتكون من رئيس مجلس الأعيان رئيسا وثمانية أعضاء ثلاثة منهم يعينهم مجلس الأعيان من أعضائه بالاقتراع، وخمسة من قضاة أعلى محكمة نظامية بترتيب الأقدمية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الوزراء المقصودين بالمواد (55) و (56) هم الوزراء العاملون وغير العاملين طالما انهم ارتكبوا الجرم أثناء تأدية وظائفهم وذلك سندا لفتوى المجلس العالي بموجب قراره رقم 1 لسنة1990.
وكان المجلس العالي قد اصدر عام 1992 تفسيرا للمادة (56) من الدستور خلص فيه إلى أن سلطة مجلس النواب في الاتهام تشمل أيضا سلطة التحقيق والملاحقة، وان منح هذه الصلاحية لسلطة معينة يمنع أي سلطة أخرى منممارستها، وهو ما يعني رفع يد النيابة العامة عن ملاحقة الجرائم التي يرتكبها الوزراء خلال تأدية وظائفهم وحصرها بمجلس النواب.
ويثير هذا الوضع تساؤلاً على إمكانية ملاحقة الوزراء عن ما يرتكبوه من جرائم أثناء تأديتهم لوظائفهم خلال غياب مجلس النواب ويلقي الضوء على مكامن الخلل الدستوري وأسبابه التي تؤدي إلى غياب مؤسسات الدولة الدستورية وغياب آليات المحاسبة معها. فهل تستعيد النيابة العامة صلاحياتها الأصيلة بتولي سلطة الاتهام والتحقيق وملاحقة الجرائم التي يرتكبها الوزراء في غياب مجلس النواب؟ أم إن غياب المجلس سيبقي جزءا من الأردنيين خارج حكم القانون، وما مدى جدية ما يسمى بمكافحة الفساد في تلك الحالة إذا كان سقف هذه الملاحقة لا تشمل منصب الوزير.
إن صلاحية مجلس النواب في الاتهام هي استثناء من القاعدة العامة لولاية السلطة القضائية بممارسة سلطة التحقيق والاتهام من خلال النيابة العامة وسلطة الحكم على جميع الأشخاص في المواد الجزائية والمدنية من خلال المحاكم، ومن المستقر عدم جواز التوسع في الاستثناءات وإنما تفسر في أضيق الحدود، وسندا لتلك القاعدة نجد أن الدستور فرق ما بين سلطة القضاء في الحكم على الوزراء وسلطته في التحقيق معهم واتهامهم؛ فقد رفع يد السلطة القضائية عن الأولى ومنحها بشكل مطلق للمجلس العالي من خلال نص المادة (55) الآمر الذي جاء في مطلعه: (يحاكم الوزراء أمام مجلس عال………). أما الثانية، وهي سلطة التحقيق والاتهام، فان النص الدستوري لم يشملها بالاستثناء بشكل مطلق حيث جاء النص: (لمجلس النواب حق اتهام الوزراء…..)، أي بمعنى جواز قيام مجلس النواب باتهام الوزراء، دون سحب هذه الصلاحية من صاحبها الأصلي، أي النيابة العامة.
ومما يدلل على هذا المعنى هو أن المادة (103) من الدستور البلجيكي، والذي استوحي منه الدستور الأردني، قد أعطت مجلس النواب البلجيكي سلطة اتهام الوزراء على سبيل الجواز بحيث جاءت العبارة (يحق لمجلس النواب.أن يتهم الوزراء ويواجههم أمام محكمة الاستئناف العليا….). أما النص الخاص بسلطة الحكم على الوزراء فقد جاء بشكل قاطع: (محكمة الاستئناف العليا هي السلطة الوحيدة التي لها الحق في الحكم عليهم).
ومن مظاهر الاستدلال الأخرى أن إجراءات التحقيق والاتهام تشكل المرحلة التي تسبق المحاكمة، فإذا كان المشرع الدستوري قد أراد حصر سلطة التحقيق والاتهام في مجلس النواب بشكل مطلق وتجريد النيابة العامة منها، لكان رتب مواد الدستور حسب المراحل وجاء بمضمون المادة (56) المتعلقة بسلطة مجلس النواب في التحقيق والاتهام قبل المادة (55) المتعلقة بسلطة المجلس العالي في الحكم.
وهذا ما يدلل بمجموعه على أن النيابة العامة تستعيد صلاحياتها الأصيلة بالتحقيق مع الوزراء واتهامهم أمام المجلس العالي خلال غياب مجلس النواب.
إن مكامن الخلل الدستوري وأسبابه لا تتوقف عند آليات التحقيق والاتهام في جرائم الوزراء أثناء غياب مجلس النواب، بل إنها تتعدى إلى حالات من الفراغ الدستوري التي قد تنجم عن غياب المؤسسات الدستورية، وقد كانت التعديلات التي طالت دستور 1952 على امتداد السنوات السابقة السبب الرئيسي لذلك، فهذه التعديلات أجازت حل مجلس النواب وتعطيل الحياة النيابية لمدة غير محددة أو حل مجلس الأعيان أو عدم رحيل الحكومة التي يحل مجلس النواب في عهدها، وبالنتيجة أخلت بالنظام الدستوري للدولة.
غياب مجلس النواب:
لم يحدد الدستور الجهة التي تتولى اتهام الوزراء في حال غياب مجلس النواب لأن غياب مجلس النواب لم يكن متصورا لدى وضع نصوص الدستور وقبل التعديلات التي طالته، ويتضح ذلك من خلال ما يلي:
1. إن الأصل أن لا يغيب مجلس النواب مطلقاً لأن الدستور ينص على أن نظام الحكم نظام نيابي ملكي وراثي، وهي عناصر لا يجوز أن يغيب أي منها في أي لحظة من اللحظات طالما أنها العناصر المكونة لنظام الحكم.
2. كما أن الأصل أن لا يغيب مجلس النواب مطلقا لأن الدستور ينص في المادة (68/2) منه على أن تجري الانتخابات الجديدة قبل أربعة أشهر من انتهاء ولاية المجلس القائم، وهو الأمر الذي يدلل على عدم جواز وجود فراغ في السلطة التشريعية في أي وقت من الأوقات كما هو الحال بشأن السلطة التنفيذية.
3. على الرغم من أن صلاحية جلالة الملك بحل مجلس النواب موجودة بموجب المادة (34) من الدستور (للملك ان يحل مجلس النواب)، إلا أن هذه السلطة كانت، قبل التعديلات الدستورية، مثقلة بالضوابط على تلك الصلاحية، فنجد أن المادة (74) من الدستور قبل تعديلها كانت تنص على وجوب استقالة الحكومة التي يحل المجلس في عهدها خلال أسبوع من تاريخ حل مجلس النواب وأن تجري الانتخابات النيابية حكومة انتقالية، ثم جرى تعديلها بحيث تم شطب شرط رحيل الحكومة مما قلل كلفة اللجوء إلى قرارات الحل.
4. كما إن صلاحية حل مجلس النواب لم تكن تؤدي إلى غياب المجلس بالشكل الحاصل حاليا، فقد كان الدستور، قبل تعديل المادة (73) منه، يوجب إجراء الانتخاب العام خلال أربعة اشهر على الأكثر من تاريخ الحل، وبخلاف ذلك يستعيد المجلس السابق سلطاته الدستورية كاملة ويعتبر الحل كأن لم يكن. ولكن بموجب التعديل الأول للمادة (73) في عام 1976 تم إضافة فقرة تمنح مجلس الوزراء صلاحية التنسيب للملك بتأجيل الانتخاب العام لمدة سنة واحدة إذا كانت هناك ظروف قاهرة تمنع إجراء الانتخاب. وفي عام 1984 جرى تعديل آخر أدى إلى إمكانية غياب مجلس النواب لمدة غير محددة وذلك بإلغاء سقف السنة الواحدة لصلاحية تأجيل الانتخاب العام بحيث أصبحت الفقرة (4) حاليا: (بالرغم مما ورد في الفقرتين (1 و 2) من هذه المادة للملك أن يؤجل إجراء الانتخاب العام إذا كانت هناك ظروف قاهرة يرى معها مجلس الوزراء أن إجراء الانتخاب أمر متعذر).
غياب المجلس العالي:
حدد الدستور تشكيلة المجلس العالي بموجب المادة (57) منه بحيث يتكون من رئيس مجلس الأعيان رئيسا وثمانية أعضاء ثلاثة منهم يعينهم مجلس الأعيان من أعضائه بالاقتراع، وخمسة من قضاة أعلى محكمة نظامية بترتيب الأقدمية، مع الإشارة إلى أن تشكيلة المجلس قبل تعديل الدستور عام 1958 كانت تنص على أن رئيس المجلس العالي هو رئيس أعلى محكمة نظامية بالإضافة إلى أربعة أعضاء من مجلس الأعيان يتم تعيينهم بالاقتراع.
وفي كل الأحوال، يبقى وجود وانعقاد مجلس الأعيان شرطاً أساسيا لتشكيل المجلس العالي، وغيابه أو عدم انعقاده يؤدي بالضرورة إلى غياب محكمة الوزراء الخاصة والوحيدة، وهو ما كان ينسجم مع نصوص الدستور الأخرى قبل التعديل الذي جرى عام 1974 بإعطاء الملك صلاحية حل مجلس الأعيان وإعفاء أي من أعضائه من العضوية، وبالتالي أصبح من الممكن غياب الجهة الوحيدة المخولة دستوريا محاكمة الوزراء لعدم إمكانية تشكيل المجلس العالي بسبب غياب أعضائه من مجلس الأعيان، وهو ما لم يكن متصورا في نصوص دستور 1952 قبل تعديله، وأصبحنا نواجه ليس فقط إشكالية غياب سلطة الاتهام للوزراء (مجلس النواب) بل وغياب المحكمة التي تملك وحدها حق الحكم عليهم.
إن التعديلات التي جرت على دستور 1952 كانت لاسباب انتفى الآن مبرر وجودها ولا بد من العودة عنها، حيث لا يجوز بقاء هذه التعقيدات الدستورية والتناقض بين مواد الدستور أو التعديلات المخالفة لروح الدستور ونظام الحكم للدولة القائم على أساس نظام نيابي ملكي، فلا يجوز أن يتضمن الدستور إمكانية غياب سلطة من سلطات الدولة لمدة محددة أو غير محددة ولا يجوز الإبقاء على نصوص لم يعد لها داع مثل النص على إمكانية إجراء الانتخاب في نصف دوائر المملكة أو تعيين نواب لإملاء مراكز شاغرة بغير الانتخابات.
ولا بد أيضا من احترام مواد دستورية قائمة مثل أن يكون قرار حل مجلس النواب مسببا التزاما بالمادة (74) من الدستور. كما أن نظرية الظروف القاهرة هي نظرية قانونية مستقرة، فلا يجوز أن تنسب حكومة ما بتأجيل الانتخاب العام لوجود ظرف قاهر يتمثل في التحضير لإعداد قانون للانتخاب لان ذلك يشكل خرقاً للدستور يستوجب المسائلة.
كما أن الإصلاح الدستوري لا يحتاج إلى العودة عن جميع التعديلات التي طالت دستور 1952 فقط، بل لا بد من القيام بإصلاحات دستورية كإنشاء محكمة دستورية، ورد صلاحيات محاكمة الوزراء إلى المحاكم النظامية، وإلغاء المادة (71) من الدستور التي تعطي مجلس النواب حق الفصل في صحة نيابة أعضائه ورد تلك الصلاحيات إلى القضاء النظامي.